الهزيمة الإسرائيلية فى حرب الصور والرموز
إنه انقلاب تاريخى متكامل الأركان.
بقوة الصور والرموز تبدلت مشاعر وتغيرت أحوال بدت مستقرة وراسخة منذ تأسيس الدولة العبرية قبل ستة وسبعين عاما.
لم يعد ممكنا تسويغ صورة الدولة الحديثة، واحة الديمقراطية فى محيط عربى متخلف ومستبد، أو صورة الدولة الصغيرة المسالمة، التى يتربص بوجودها ومستقبلها العرب بداعى «العداء للسامية».
ولا عاد ممكنا التجهيل بالمعاناة الفلسطينية الطويلة، تهجير قسرى وفصل عنصرى، أو إنكار أحقية شعبها فى تقرير مصيره بنفسه.
ترسخت صورة إسرائيل السابقة بعاملين رئيسيين.
الأول، المكون الجوهرى للدور الإسرائيلى فى حسابات المصالح والاستراتيجيات الغربية بالشرق الأوسط.
والثانى، التجييش الدعائى لنموذج إسرائيل، التى نهضت من «الهولوكوست» إلى الدولة، وقد تكفلت وسائل الإعلام وهوليوود بتكريسه.
لعلنا لا نلتفت إلى دور الرحلات، التى نظمت بتوسع فى خمسينيات وستينيات القرن الماضى، لجماعات واسعة من الشباب الأوروبى إلى «الكيبوتسات»، التى تعرف الآن باسم «المستوطنات»، فى بناء قاعدة ولاء لنموذج دولة حديثة منفتحة على عصرها، اشتراكية وديمقراطية يحميها السلاح على ما كان يزعم مؤسسو الدولة.
لم يعد ممكنا الآن أى ادعاء مماثل فالأجيال الجديدة تغيرت بوصلة نظرتها، فـ«الكيبوتسات» أخذت صفتها الحقيقية كتجمعات استيطانية تتوسع على حساب السكان الفلسطينيين بالمخالفة للقانون الدولى ويتفشى فيها اليمين الصهيونى بأكثر صيغه تطرفا وعنصرية.
تبددت الدعايات وبقيت الحقائق.
بقوة الصور والرموز أعادت القضية الفلسطينية تعريف نفسها كقضية إنسانية تستحق الدعم والإسناد وقضية تحرر وطنى عادلة ومحقة لشعب رازح تحت الاحتلال يطلب حقه فى الحرية.
فى كل صورة مأساة إنسانية كاملة.. والصور واصلة برسائلها إلى الضمائر الحرة فى العالم كله.
من عمق المأساة تبدت موجات الغضب فى الشوارع والجامعات الغربية داعية لوقف حرب الإبادة وعقاب إسرائيل على جرائمها بحق الإنسانية.
كانت تلك هزيمة استراتيجية لإسرائيل فى صورتها وأوزانها.
بات العلم الفلسطينى رمزا سياسيا يرفع فى كل مكان، والكوفية اكتسبت رمزيتها من عمق التضامن مع شعب يتمسك بأرضه تحت قصف لا يتوقف وموت يخيم فى المكان.
بقدر المأساة المروعة التى نالت من أهالى غزة تشريدا وتقتيلا وتجويعا أخذت ردات الفعل مداها فى العالم الغربى، وداخل أمريكا نفسها، حتى أصبحت قضية دولية لأول مرة فى تاريخ انتخاباتها الرئاسية موضوعا للاستقطاب قد يحسم نتائجها.
توالت الضربات الموجعة حتى وجدت إسرائيل نفسها بوضع الدولة «المنبوذة» و«المارقة»، التى تتهددها الملاحقات القضائية، أمام محكمتى «العدل الدولية» بتهمة الإبادة الجماعية و«الجنائية الدولية» بتهمة ارتكاب رئيس وزرائها «نتنياهو» ووزير دفاعها «جالانت» جرائم حرب تستدعى استصدار مذكرتى توقيف بحقهما.
رغم أن «الجنائية الدولية» وجهت اتهامات مماثلة لثلاثة من قيادات «حماس» «السنوار» و«الضيف» و«هنية» عن أحداث السابع من أكتوبر (2023) إلا أن الضرر الإسرائيلى أفدح بما لا يقاس.
كان مثيرا للالتفات توحد الصف السياسى الإسرائيلى المنقسم على نفسه أمام خطر الملاحقة «الجنائية الدولية»، لكنه كان شكليا لا حقيقيا، فالانشقاقات الداخلية أخذت مستوى غير مسبوق والاتهامات المتبادلة وصلت إلى التشاتم بوقت حرب.
كما كان مثيرا للالتفات إدانة الولايات المتحدة لقرار المدعى العام للجنائية الدولية «كريم خان» باعتباره مشينا يساوى بين إسرائيل وجماعة إرهابية بنص تصريحات «جو بايدن».
الاتهام بنصه وحيثياته بدد صورة دأبت على ترديدها الدعايات الإسرائيلية بأن جيشها هو «الأكثر أخلاقية»، كما صورة أخرى أنها فوق القانون الدولى لا تخضع لحساب.
بالمقابل اعتبرت «حماس»، التى رحبت بالقرار فى شقه الإسرائيلى، أن ما لحق بثلاثة من قادتها يساوى بين الضحية والجلاد.
كان أمر «العدل الدولية» لإسرائيل بوقف هجومها العسكرى على رفح صدمة أخرى.
يصعب تمرير الموقف نفسه فى مجلس الأمن حيث ينتظره كالمعتاد الفيتو الأمريكى، لكن أثره ينزع عن إسرائيل أية ادعاءات تبرر الحرب على غزة بالدفاع عن النفس.
هذه بذاتها هزيمة استراتيجية رغم أن ذلك الأمر اقتصر على رفح دون بقية قطاع غزة.
بهوس عنصرى متطرف جرت مصادرة كاميرات الوكالة الدولية الأمريكية «الاسوشيتدبرس» حتى تتوقف عن نقل صور جرائم الحرب وبيعها لكل من يطلبها، كـ«الجزيرة» لكنه جرى التراجع عنه سريعا تحت ضغط البيت الأبيض.
كان الهدف الرئيسى من المصادرة منع الوكالة الأمريكية من استكمال تحقيق استقصائى تثبت فيه بالأدلة والشهادات كذب الدعايات عن اغتصاب جنسى وقطع رءوس أطفال فى أحداث السابع من أكتوبر.
بالوقت نفسه أعلنت ثلاث دول أوروبية، النرويج وأيرلندا وإسبانيا، عزمها الاعتراف المتزامن بـ«الدولة الفلسطينية» (28) مايو الحالى.
أهمية ذلك الاعتراف فى توقيته ورسائله.
فهو- أولا- يعمق الانقسام داخل الاتحاد الأوروبى، ويدعو إلى انضمام دول أخرى إليه باعتباره مدخلا ضروريا لـ«حل الدولتين».
وهو - ثانيا- يمثل تحديا للولايات المتحدة، التى استخدمت حق النقض لإجهاض استصدار قرار من مجلس الأمن يعترف بالدولة الفلسطينية ويرفع مستوى تمثيلها فى المنظمة الدولية.
وهو- ثالثا- تعبير عن قوة المجتمع المدنى والرأى العام فى الدول الثلاث، الذى يتبنى إنصاف القضية الفلسطينية ووضع حد لحرب الإبادة على شعبها.
كانت تلك هزيمة استراتيجية أخرى من تبعات حرب الإبادة.
يرجع الفضل الأول إلى الصمود الفلسطينى الأسطورى فوق أرضه حتى لا تتكرر مرة أخرى نكبة التهجير القسرى.
تكفلت هيستريا حكومة «نتنياهو» و«بن غفير» و«سيموتريتش» بتعميق وطأة الهزيمة فى الوقائع والصور.
دعت إلى عقاب أية دولة تعترف بـ«الدولة الفلسطينية»، التى تصفها بأنها مكافأة للإرهاب!، كأنها تحكم على نفسها بالعزلة.
مثل هذه الدعوة تستدعى بالضرورة تقوية التيار الشعبى الضاغط لفرض عقوبات أكاديمية وتسليحية واقتصادية على إسرائيل.
ثم تكفل قرار وزير الدفاع الإسرائيلى فك الارتباط فى شمال الضفة الغربية بما يسمح بمزيد من التوسع الاستيطانى بتعميق إضافى لأزمة إسرائيل فى عالمها وأمام حلفائها، الذين يتبنون «حل الدولتين».
حسب تصريح أمريكى رسمى فإنه قرار «خطير» و«متهور»، ثم لا شىء آخر!
إذا ما جرى إعادة بناء مستوطنات فوق أراض فلسطينية خاضعة للسلطة وفق اتفاقية «أوسلو» فإن أى كلام عن «حل الدولتين» يصبح لغوا!
بالتوقيت نفسه اقتحم «بن غفير» المسجد الأقصى بحماية الشرطة، كأنه دعوة مفتوحة لحرب دينية.
كان مستلفتا وسط كل هذا الفشل السياسى توجه الكونجرس الأمريكى لاستضافة رئيس الوزراء الإسرائيلى، الذى قد تصدر بحقه مذكرة توقيف من «الجنائية الدولية» بتهم ارتكاب جرائم حرب، لإلقاء خطاب أمامه فى تحد أفلت عياره.
إذا ما حدثت تلك الدعوة فإنها هزيمة استراتيجية وأخلاقية، لا يمكن التحكم فى تبعاتها، سوف تلحق بالولايات المتحدة وصورتها أمام نفسها، كما العالم كله!